أشار كثيرون إلى وجود مشروع للدولة الفارسية لمنطقة الشرق الأوسط، وأفاضوا أكثر في دورها العلني والسري لمساعدة التمدد الشيعي في المنطقة، ولكن حتى الآن لم يحاول أحد تحديد الأهداف الاستراتيجية والدوافع الكامنة لهذا المشروع وطبيعته وأبعاده، رغم أن النخبة المسيطرة على الدولة الفارسية لم تحاول إنكاره أو إخفاءه منذ إعلان الجمهورية الإسلامية في بلاد الفرس. وعندما نتصدى لعرض حقيقة المشروع الفارسي للمنطقة نجدنا في مواجهة ثلاث حقائق، أولها: أننا بصدد الحديث عن مشروع ثورة على شكل دولة أصبحت وريثة للإمبراطورية الفارسية، تلك القوة العظمى التي ظهرت منذ آلاف السنين. وثانيها: أن الثورة -الدولة في فارس تعد الدولة الوحيدة على مستوى العالم، التي يشكل فيها المذهب الشيعي مصدر التشريع، وهو الأمر الذي يغذي إحساس الفرس بالتفرد. والحقيقة الأخيرة: أن الثورة -الدولة لديها عقدة "الخوف من الأجانب"، وتشعر بأن إحياء الإمبراطورية الفارسية هو السبيل الوحيد لحل هذه العقدة. لذلك فإن مشروع الدولة الفارسية يهدف ببساطة إلى فرض "هيمنة الفرس الشيعة على المنطقة"، وإقامة "الإمبراطورية الشيعية العظمى"، ليس إحياءً لشعور تاريخي وطني فحسب، ولكن لأنه الضمانة الوحيدة للاعتراف بها قوة إقليمية كبرى، تستطيع فرض مصالحها على المستويين الإقليمي والدولي. وتلعب المعطيات الاستراتيجية دوراً بالغ الأهمية في تحديد دوافع هذا المشروع، ويُرد ذلك إلى ما فرضته الجغرافيا والتاريخ على "الفرس الجدد" من موقع ودور ومكانة، وما وفرته لهم من فرص وقيود أو تهديدات وخصومات، فرضت نفسها على مراحل تنفيذ وإدارة المشروع، ومن هنا جاء الفهم الخاطئ لأبعاد المشروع الفارسي في المنطقة والتركيز على بعده الطائفي والمذهبي فقط، في حين أن هذا البعد يمثل إحدى آليات تنفيذ المشروع. فالدولة الفارسية تشعر بتميزها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط عامة، والخليج العربي خاصة، فهي سليلة حضارة ذات أمجاد تاريخية تفوقت خلالها على العراق العربي بل واحتلت أراضي تابعة له، كما أنها تفوق محيطها الخليجي من الناحية الديموجرافية، فضلاً عن اعتزازها بالانفراد بزعامة المذهب الشيعي، وتمتعها بخبرة تاريخية سياسية كثورة تفوق مثيلاتها في دول الجوار الاستراتيجي. وإيران دولة "شبه مغلقة"، تحاصرها اليابسة من الشمال والشرق والغرب، بحيث تعتمد أساساً في اتصالها بالخارج على إطلالتها الخليجية التي هي الأطول مقارنة بالدول العربية المطلة عليه، ثم إن الخليج هو المعبر الرئيسي لنفط إيران الذي يشكل 80% من صادراتها إلى الخارج، والمصدر الأساسي لعملتها الأجنبية، وفي الوقت نفسه فإن معظم واردات إيران تأتي عند طريق الخليج، كما تشتبك دولة الفرس استثمارياً مع المنطقة، لذلك كان طبيعياً أن ينطلق المشروع الفارسي مُركزاً على الدول العربية والخليجية. لذلك ترى بلاد فارس أن قيام أي تقارب عربي أو خليجي على الحدود الغربية لها سيؤدي إلى وجود قوة سياسية وعسكرية قد تؤثر على الطموحات الفارسية ورؤيتها التوسعية في المنطقة، ويقلل من قيمتها الإقليمية، لذلك فإنها ترفض حتى هذه اللحظة الاعتراف بمجلس التعاون الخليجي، كما أن تهديدات قادة الحرس الثوري الإيراني لدول الخليج جادة وواقعية، لا تعتمد فقط على وجود خلايا نائمة تم إعدادها للعمل عند صدور الأمر بذلك، كما صرح أحد الدبلوماسيين الإيرانيين السابقين، بل على وجود جاليات إيرانية كبيرة العدد تعمل في دول الخليج وتم إعدادها لـ"الجهاد الثوري" في أي لحظة. من هنا جاء تضخيم دولة الفرس الإعلامي والسياسي لبعض التهديدات التي تواجه المنطقة لصرف النظر عن توجهاتها وأهداف مشروعها للمنطقة، فتثير باستمرار موضوع الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، خاصة الوجود العسكري الأميركي، رغم أنها السبب الرئيسي وراء وجوده واستمراره، ثم سعت لإبراز التهديد الإسرائيلي واحتلاله لأرض فلسطين، وتناست أنها تحتل أرضاً عربية وتنتهج سياسة الصهيونية ذاتها في رفض أية حلول سلمية لهذه القضية، في الوقت الذي تتجاهل فيه التهديد الإرهابي وأنشطته في المنطقة. ورغم مزاعم إيران الخاصة بالدفاع عن قضايا المسلمين المستضعفين في العالم، فإنها لا تتذكر مستضعفي الشيشان في روسيا الاتحادية، ومساكين إقليم زينج يانج الإسلامي في الصين، لأنهما من المسلمين السنة من جانب، ولا يساعدان على تحقيق المشروع الفارسي من جانب آخر. ويخطئ البعض إذا لم يأخذوا على محمل الجد الأطماع الفارسية في البحرين، التي لا يتورع أركان النظام الفارسي عن التصريح بها، ولا يخفى دور وسائل الإعلام الفارسية في تعزيز هذا التوجه وعدم إنكاره، باعتبار أن مملكة البحرين أحد مرتكزات المشروع الفارسي الذي يمتد من باكستان شرقاً إلى لبنان وسوريا غرباً، ومن العراق شمالاً إلى اليمن جنوباً. لقد حدد الدستور الإيراني بوضوح كافٍ أبعاد وآليات المشروع الفارسي، حيث تشير مقدمته إلى "أن الدستور يُعِد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة إلى توسيع العلائق الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية، حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم، ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم"، تم تعريفهم في الأدبيات الفارسية بأنهم المستضعفون في الأرض، وتنص المادة الثانية من البند الخامس في الدستور على مسؤولية الإمامة والقيادة ودورها الأساسي في استمرار الثورة. ومن أهم مرتكزات الفرس لتحقيق مشروعهم الاعتماد على الشيعة "العرب" في تسويق الثورة لتمهد الطريق لتفتيت الدول العربية، وهو هدف لم ينكره الفارسيون في أي وقت وفق نص الدستور، ولا يزالون يعملون على تحقيقه بأساليب متعددة تتأرجح بين المساعدة على التطرف والعنف وتشجيع الانفصال؛ والتحالف مع الأعداء، مثل دعم حركة "طالبان" بالسلاح، وهي التي كانت ألد أعداء الثورة في بلاد فارس، فضلاً عن "إقامة الجيش العقائدي المكون من جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة، ولا تلتزم هذه القوات بمسؤولية حماية وحراسة الحدود فحسب، بل تتحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد وتصدير الثورة إلى الخارج"، وهو ما يوفر مظلة دينية لأنشطة هذه القوات في الخارج بدءاً بالمناطق الشيعية المحيطة بإيران، ثم تتسع الدائرة بعد ذلك لتشمل أماكن وجود الشيعة في باقي الدول العربية والآسيوية، مما يجعل السعي لإقامة كيان شيعي متسع في المنطقة أمراً طبيعياً، يدين في النهاية بالولاء لزعيمة الشيعة في العالم، وسيتحقق ذلك بعد أن تكون القوى الشيعية العربية قد استنفدت كل قواها القتالية والسياسية في صراعها مع باقي الملل العربية. لقد استقر الرأي بعد نجاح الثورة في بلاد فارس على التمهيد لإقامة الإمبراطورية، ومن ثم فقد خطت الثورة خطوات في هذا السبيل، أهمها إنشاء المجمع العالمي لآل البيت الذي تشارك فيه 65 دولة ومنظمة ومؤسسة شيعية من جميع أنحاء العالم، ومقره طهران باعتبارها عاصمة التجمع الشيعي العالمي وقبلته الدينية، ويضم مراكز للاتصالات والبحوث في مختلف شؤون الشيعة السياسية والأمنية والفكرية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والمستقبليات، ويتولى أمانته آية الله محمد علي تسخيري زميل دراسة الزعيم الإيراني علي خامنئي. ومثلما هي حال ابن لادن في تقسيم العالم إلى فسطاطين، "الخير" و"الشر"، وكذلك الإمبراطور بوش الذي قسم العالم إلى من معه ومن ضده، فإن دولة الفرس ترى أن العالم ينقسم إلى قسمين هما: المستضعفون والمستكبرون، وهناك الإسلام الشعبي والإسلام الرسمي، ومن ثم فإن على بلاد فارس تصدير الثورة الإسلامية للمستضعفين في الدول جميعها دون استثناء بما فيها الدول الإسلامية التي تعتنق الإسلام الرسمي ولا تقيم حدوده، وهذا الفهم يتيح لها تسويق مشروعها وفق إدراكها للظروف الملائمة لتنفيذه. إن أي محاولة للتهوين من شأن هذا المشروع، هي من قبيل دفن الرؤوس في الرمال والهروب من معطيات الواقع، تماماً كما كان آباؤنا يستبعدون نجاح العصابات الصهيونية في إقامة دولة عنصرية على أرض فلسطين، وما كان حلماً مستبعداً بالأمس صار حقيقة واقعة اليوم، وذلك بفضل إصرار القائمين على تحقيقه، وغفلة الآخرين الذين سيطر عليهم حسن الظن فاستسلموا لأحلام اليقظة.